فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَحَاقَ بِهِم} يعني: نزل بهم: {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ}.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} يعني: أصبنا الإنسان منا رحمة، يعني: نعمة وخيرًا وعافية: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} يعني: آيس من رحمة الله، كفور بنعم الله تعالى، ثم قال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء} يعني: أعطيناه خيرًا، وعافية، وسعة في الرزق: {بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} يعني: أصابته: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي} يعني: لا يشكر الله تعالى.
ذكر في الابتداء: {لَّيَقُولَنَّ} بنصب اللام بلفظ الواحد، لتقديم الفعل على الاسم، وفي الثاني بضم اللام لأنه فعل الجماعة، ولم يذكر الاسم، وفي الثالث بنصب اللام لأنه فعل الواحد.
ويقول: ذهب السيئات عني: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} يعني: بطرًا فرحًا بما أعطاه الله تعالى، وهو الطغيان في النعمة، فخور في نعم الله تعالى، ومتكبر على الناس.
ثم استثنى، فقال تعالى: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ}، وهم المؤمنون الذين صبروا على الطاعات، والشدائد ليسوا كذلك، وليسوا من أهل هذه الصفة، إذا ابتلوا صبروا وإذا أعطوا شكروا: {وَعَمِلُواْ الصالحات} بينهم وبين ربهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم في الدنيا: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} يعني: ثوابًا عظيمًا في الجنة.
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} يعني: لا تترك: {بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} وذلك أن كفار مكة.
قالوا: كيف لا ينزل إليه ملك، أو يكون له كنز وطلبوا منه بأن لا يعيب آلهتهم، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يترك عيبها، رجاء أن يتبعوه، فنزل: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} من أمر الآلهة: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} في البلاغ، {أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} يعني: المال، {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يُعِينُهُ ويُصَدِّقُهُ فأمر بأن لا يترك تبليغ الرسالة، فقال: يا محمد، {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} يعني: إنما عليك تبليغ الرسالة، والتخويف.
{والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} يعني: شهيد بأنك رسول الله تعالى، قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} يعني: أيقولون والميم صلة افتراه، يعني: اختلقه من تلقاء نفسه.
{قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} يعني: مختلقات.
قال الكلبي: يعني: بعشر سور مثل سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والتوبة، ويونس.
وهود لأن العاشرة هي سورة هود.
وقال بعضهم: هذا التفسير لا يصح، لأن سورة هود مكية، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة مدنيات، أُنْزِلَتْ بعد سورة هود بمدة طويلة.
ولكن معناه فأتوا بعشر سور مثل سور القرآن، أي سورة كانت، مفتريات، يعني: مختلقات إن كنتم تزعمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يختلقه من ذات نفسه، {وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله} يعني: استعينوا بآلهتكم: {إِن كُنتُمْ صادقين} في مقالتكم.
فسكتوا، فلم يجيبوا، فنزل قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} فإن لم يجيبوك، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الجماعة، كما قال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] ويقال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، {فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} يقال: فاعلموا يا أهل مكة، إنما أُنزل بعلم الله، يعني: أنزل جبريل هذا القرآن بإذن الله تعالى وبأمره.
وقال القتبي: بعلم الله، يعني: من علم الله والباء مكان من.
ثمّ قال تعالى: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} يعني: فاعلموا أن لا إله إلا هو، يعني: إن الله تعالى هو منزل الوحي، وليس أحد ينزل الوحي غيره: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} يعني: مقرّين بأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ويقال: مخلصون بالتوحيد ويقال: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} هذا على وجه الأمر، يعني: أسلموا.
قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} يعني: من كان يريد بعمله الدنيا، ولا يريد به وجه الله.
{نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} يعني: ثواب أعمالهم في الدنيا: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} يعني: لا ينقص من ثواب أعمالهم شيء في الدنيا، {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار}.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل القبلة. وقال الحسن: نزلت في المنافقين والكافرين: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} يعني: ثواب أعمالهم في الدنيا، لأنه لم يكن لوجه الله تعالى: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وروى أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، صَارَتْ أُمَّتِي ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى خَالِصًا، وَفِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى رِيَاءً، وَفِرْقَةً يَعْبُدُونَ الله تَعَالى لِيُصِيبُوا بِهَا الدُّنْيَا. فَيَقُولُ الله تَعَالَى لِلّذِي كَانَ يَعْبُدُ الله لِلدُّنْيَا: وَمَاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ؟ فَيَقُولَ: الدُّنْيَا. فَيَقُولُ الله عز وجل: لاَ جَرَمَ، وَلاَ يَنْفَعُكَ مَا جَمَعْتَ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَيَقُولَ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى النَّارِ، وَيَقُولُ لِلَّذِي كَانِ يَعْبُدُ الله رِياءً، مَاذَا أَرَدْتَ بِعَبَادِتكَ؟ فَيِقُولَ: الرِّيَاءَ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى النَّارِ، وَيَقُولُ للَّذِي كَانَ يَعْبُدُ الله تَعَالىَ خَالِصًا: مِاذَا أَرَدْتَ بِعِبَادَتِكَ؟ فِيَقُولُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كُنْتُ أَعْبُدُكَ لِوَجْهِكَ وَذَاتِكَ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الجَنَّةِ».
قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} يعني: على بيان من ربه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} يقول: يقرأ جبريل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وهو شاهد منه، يعني: من الله تعالى.
وهذا قول ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم النخعي.
ويقال: أفمن كان على بينة من ربه، يعني: أن الله بيّن أمره ونبوته بدلائل أعطاها محمدًا صلى الله عليه وسلم، {وَيَتْلُوهُ} أي: يقرأ القرآنَ جبريلُ على محمد صلى الله عليه وسلم: {شَاهِدٌ مّنْهُ}، أي: ملك أمين من الله تعالى، وهو جبريل.
وقال شهر بن حوشب القرآن: شاهد من الله تعالى، ومعناه: يتلو القرآن، وهو شاهد من الله تعالى.
وقال الحسن: ويتلوه شاهد منه، يعني: لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: لسانه شاهد منه.
وكذلك قال عكرمة.
قال: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال: حدثنا أبو إسماعيل، قال: حدثنا صفوان بن صالح، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الخليل، عن قتادة، عن عروة، عن محمد بن علي، قال: قلت لعليّ: إنَّ الناس يزعمون في قوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} أنك أنت التالي، قال: وددت أني أنا هو، ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقال: الشَّاهد القرآن، ويتلوه يعني: بعده.
ويقال: يتلوه، يعني: يتبعه، كقوله: {والقمر إِذَا تلاها} [الشمس: 2].
قال القتبي: هذا كلام على الاختصار ومعناه: أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم، كقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ الليل ساجدا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الالباب} [الزمر: 9] يعني: كمن هو بخلاف ذلك.
ثم قال: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} يعني: جبريل قرأ التوراة على موسى عليه السلام من قبل أن يتلو القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول الكلبي، ومقاتل.
وقال عبد الله بن سلام: يتلو القرآن، وكان من قبله يتلو التوراة.
والتأويل الأول أصح، لأن هذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة.
ويقال: هم الذين آمنوا بمكة من أهل الكتاب، حين قدموا من الحبشة.
ثم قال: {إَمَامًا وَرَحْمَةً} يعني: إمامًا يُهتدى به ويعمل به، ورحمةً، يعني: ونعمة من العذاب لمن آمن به، يعني: كتاب موسى عليه السلام: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: بالقرآن وهذا كقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ باياتنا إِلاَّ الكافرون} [العنكبوت: 47] يعني: بالقرآن.
ثم قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب} يعني: من يجحد بالقرآن: {فالنار مَوْعِدُهُ} يعني: مصيره.
قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى، حتى بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ، لاَ يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لاَ يُؤمِنُ بِي إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ».
فجعلت أقول وأتفكر: أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه الآية، {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} قال: هي في أهل الملل كلها. ثم قال: {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مّنْهُ} يعني: فلا تك في شك أن موعده النار.
{أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: فلا تك في شك أن القرآن من الله تعالى، وأنه الحق من ربك، أي: الصدق من ربك، ردًا لقولهم: إنه يقول ذلك من شيطان يلقيه إليه، يقال له: الري.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ إلا وَمَعَهُ شَيْطَانٌ فَاغِرٌ بَيْنَ يَدَيهٍ، إلا أَنَّ الله تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْه وَأَسْلَم».
ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس} أهل مكة: {لاَ يُؤْمِنُونَ} يعني: لا يصدقون بالقرآن بأنه من عند الله تعالى.
ثم قال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} يعني: ومن أشد في كفره ممن افترى، يقول: ممن اختلق على الله كذبًا، بأن معه شريكًا: {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ} يعني: يساقون إلى ربهم يوم القيامة، {وَيَقُولُ الاشهاد} يعني الرسل: قد بلغناهم الرسالة.
وقال الضحاك: ويقول الأشهاد، يعني: الأنبياء.
وقال قتادة، ومجاهد، ويقول الأشهاد، يعني: الملائكة.
وقال الأخفش: الأشهاد، واحدها شاهد، مثل أصحاب وصاحب، ويقال: شهيد وأشهاد، مثل: شريف وأشراف.
قال الله تعالى: {هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} يعني: افتروا على الله عز وجل بأن معه شريكًا، وقال الله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين}، يعني: عذابه وغضبه على المشركين.
ثم وصفهم فقال تعالى: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يعني: يصرفون الناس عن دين الإسلام: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يطلبون بملة الإسلام زيفًا وغِيرًا، {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كاذبون} ينكرون البعث.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ في الأرض} يعني: لم يفوتوا، ولم يهربوا من عذاب الله تعالى، حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة، {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} يعني: ما كان لهم من عذاب الله تعالى مانع يمنعهم من العذاب، {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} يعني: الرؤساء يكون لهم العذاب بكفرهم، وبما أضلوا غيرهم، {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} في العذاب، لا يقدرون أن يسمعوا: {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} في النار شيئًا.
ويقال: ذلك التضعيف لهم، لأنهم كانوا لا يستطيعون الاستماع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، في الدنيا من بغضه، {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}، أي: عميًا لا ينظرون إليه من بغضه.
وقال الكلبي: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون سماع الهدى، وبما كانوا لا يبصرون الهدى.
ويقال: كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا، فلم يسمعوا وكانوا يستطيعون أن يبصروا، فلم يبصروا.
ويقال: يعني: لم يكن لهم سمع القلب، وما كانوا يبصرون، أي لم يكن لهم بصر القلب.
قرأ ابن كثير، وابن عامر: {يضاعف لَهُمْ} بتشديد العين بغير ألف، وقرأ الباقون: {يضاعف} بالألف، ومعناهما واحد.
ثمّ بيَّنَ أنّ ضرر ذلك يرجع إلى أنفسهم، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} يعني: غبنوا حظَّ أنفسهم: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعني: ويبطل عنهم ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى، فات عنهم ولا ينفعهم شيئًا.
ثم قال تعالى: {لاَ جَرَمَ} قال القتبي: يعني حقًا.
ويقال: يعني نعم.
ويقال: لا جرم، يعني: لا شك.
ويقال: لا كذب.
ويقال: لا جرم، أي: لا بلى.
وذكر عن الفراء أنه قال: لا جرم، كلمة كانت في الأصل، بمنزلة لابد، ولا محالة، فكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقًا، {أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الاخسرون} يعني: الخاسرين.
ويقال: الأخسر إذا قلت بالألف واللام، يكون بمعنى الخاسر، وإذا قلت: أخسر بغير اللام، يكون أخسر من غيره.
ثم أخبر عن المؤمنين، وما أعدّ لهم في الآخرة، فقال: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، {وَعَمِلُواْ الصالحات}، يعني: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم، {وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ}، قال القتبي: يعني: تواضعوا، والإخبات: التواضع.
وقال مقاتل: أخلصوا، ويقال: يخشعوا فرقًا من عذاب ربهم، {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة} يعني: أهل الجنة: {هُمْ فِيهَا خالدون} يعني: دائمون، لا يموتون ولا يخرجون منها، ثم ضرب مثل المؤمنين والكافرين:
فقال تعالى: {مَثَلُ الفريقين} يعني: مثل المؤمن والكافر، ومثل الذي يبصر الحق، ومثل الذي لا يبصر الحق: {كالأعمى} يعني: عن الإيمان، ولا يبصره، {والأصم} عن الإيمان، ولا يسمعه، وهو الكافر، {والبصير والسميع} وهو المؤمن.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} في الشبه.
ويقال معناه: مثل الفريقين، يعني: الذي لا يسمع، ولا يبصر، هل يستوي بالذي يسمع ويبصر؟ ويقال معناه: كالأعمى والبصير، والأصم والسميع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار مكة: {هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ والأصَمُّ وَالسَّمِيعُ} قالوا لا.
قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أنهما لا يستويان. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} بالتخفيف، وقرأ الباقون: {تَذَكَّرُونَ} بالتشديد. اهـ.

.قال الثعلبي:

{الر كِتَابٌ} قيل: {الر} مبتدأ وكتاب خبره، وقيل: كتاب رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا كتاب: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} قال ابن عباس: أُحكمت آياته: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بُيّنت بالأحكام والحلال والحرام، قال الحسن وأبو العالية: فُصّلت: فُسِّرت: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تعبدوا} يحتمل أن يكون موضع أن رفعًا على مضمر تقديره: وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا، ويحتمل أن يكون محله نصبًا بنزع الخافض تقديره: ثم فُصِّلت أن لا تعبدوا: {إِلاَّ الله} أو لئلاّ تعبدوا إلاّ الله.
{إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ} من الله: {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وأن عطف على الأول: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إلى الله بالطاعة والعبادة، وقال الفرّاء: ثُمّ هاهنا بمعنى (الواو) أي وتوبوا إليه لأنّ الاستغفار من التوبة، والتوبة من الاستغفار: {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} أي يعيشكم عيشًا في منن ودعة وأمن وسعة رزق: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو الموت: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ويؤتِ كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه [سمى فضله] باسم الابتداء.
قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر، واحدة وبقيت له تسع سنات ثم قال: هلك من غلبت آحاده عشراته.